الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025

افتتاح متحف طرابلس الوطني يعيد الاعتبار للذاكرة الليبية ويعكس تحولات إيجابية في المشهد العام

متحف طرابلس الوطني

افتتاح متحف طرابلس الوطني يعيد الاعتبار للذاكرة الليبية

يمثل افتتاح متحف طرابلس الوطني محطة ثقافية بارزة تحمل أبعاد تتجاوز الطابع الاحتفالي إذ يعكس مؤشرات تحسن نسبي في الأوضاع الأمنية والاقتصادية داخل ليبيا إلى جانب تنامي الاهتمام بالثقافة والعمران كركيزتين أساسيتين في مسار إعادة بناء الدولة وتعزيز الثقة بين مكونات المجتمع.

ويبعث المتحف برسالة واضحة مفادها أن ليبيا قادرة على حماية إرثها الحضاري وصون تاريخها العريق وتحويله إلى عنصر فاعل في ترسيخ الهوية الوطنية وتعزيز قيم الانتماء والوحدة بما يدعم الاستقرار ويفتح آفاق لمستقبل قائم على الوعي بالجذور التاريخية المشتركة.

ويعود مشروع متحف طرابلس الوطني إلى تعاون ليبي مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي قبل أن يفتتح رسميًا أواخر الثمانينيات ليكون واجهة ثقافية حديثة تحتضن كنوز البلاد الأثرية، وقد جاء المتحف ليحل محل المتحف القديم داخل القلعة الذي أنشئ خلال الحقبة الإيطالية حيث جرى نقل التماثيل والمقتنيات الأثرية إليه للحفاظ عليها وعرضها بأسلوب أكثر تنظيم.

ومع اندلاع أحداث عام 2011 أغلق المتحف لأسباب أمنية قبل أن يشهد مؤخرًا أعمال ترميم وتأهيل شاملة أعادت إليه مكانته ودوره الثقافي ومهدت لاستقبال الزوار مجددًا في خطوة تعكس عودة الحياة إلى أحد أبرز المعالم الحضارية في العاصمة الليبية.

يضم متحف طرابلس الوطني مجموعة فريدة من القطع الأثرية التي تسرد فصول متتابعة من تاريخ ليبيا الممتد عبر آلاف السنين وتكشف عن عمق الحضارات التي تعاقبت على أرضها، ومن بين أبرز هذه الكنوز مومياء وان مهجاج التي عثر عليها في أواخر خمسينيات القرن الماضي بمنطقة تادرارات أكاكوس جنوب غرب البلاد في اكتشاف أثري شكل علامة فارقة في دراسة عصور ما قبل التاريخ.

وتنتمي هذه المومياء إلى فترة سحيقة سبقت الحضارة الفرعونية بقرون طويلة إذ جرى تحنيطها باستخدام الجلد في أسلوب مختلف كليًا عن طرق التحنيط المعروفة في وادي النيل، وقد أكدت دراسات أكاديمية حديثة أن تاريخها أقدم من المومياء المصرية بأكثر من ألف عام ما يمنحها قيمة علمية استثنائية على مستوى العالم.

ولا تقتصر معروضات المتحف على هذه المومياء الفريدة بل تشمل لوحات فسيفساء وتماثيل تمثل أباطرة وآلهة من الحقبة الرومانية تم اكتشافها في مدينتي لبدة الكبرى وصبراتة وهما من أبرز المواقع الأثرية في ليبيا، كما يضم المتحف مجموعات نادرة من العملات التي تعود إلى العصور الرومانية والإسلامية تعكس تطور النشاط الاقتصادي عبر الحقب المختلفة.

ويحتوي المتحف أيضًا على جناح مخصص لحضارات ما قبل التاريخ يضم أدوات حجرية وأواني فخارية يتجاوز عمرها ثمانية آلاف عام إلى جانب معروضات لمدافن تعود إلى حضارة ليبية قديمة جنوب طرابلس، نقلت بعض أجزائها بعناية لعرضها داخل قاعات المتحف.

كما تعرض إحدى القاعات مومياء أخرى اكتشفت في واحة الجغبوب قرب الحدود المصرية ويعود تاريخها إلى القرن الثاني الميلادي إضافة إلى أجنحة متخصصة في التراث الليبي والآلات الموسيقية الشعبية ومقتنيات المجاهدين الليبيين خلال فترات الاحتلال الإيطالي والحكم العثماني في توثيق بصري ووجداني لمسيرة النضال والهوية الوطنية.

تمثل عودة متحف طرابلس الوطني إلى العمل خطوة محورية في إحياء الحياة الثقافية الليبية وفرصة جادة لإعادة الاعتبار للتراث الوطني بوصفه أحد ركائز بناء الدولة وتعزيز التماسك المجتمعي، وينظر إلى هذه الخطوة باعتبارها مدخل لإطلاق مشاريع ثقافية مماثلة في مدن كبرى مثل بنغازي وسبها بما يسهم في توسيع نطاق الاهتمام بالهوية الليبية وتحويل الثقافة إلى مساحة جامعة بعيدًا عن الاستقطاب السياسي.

ويعول على المتحف في أن يكون مركز فاعل للحراك الفكري من خلال تنظيم محاضرات وندوات وأنشطة معرفية تسهم في نشر ثقافة الحوار وقبول التنوع وتدعم مسارات المصالحة الوطنية عبر استحضار التاريخ المشترك والذاكرة الجماعية لليبيين.

وشهدت العاصمة طرابلس مؤخرًا إعادة افتتاح المتحف داخل مجمع السرايا الحمراء في حدث ثقافي لافت أعاد تسليط الضوء على الإرث الحضاري للبلاد بعد سنوات من الإغلاق فرضتها الظروف الأمنية، وجاء الافتتاح وسط حضور رسمي وثقافي ودبلوماسي إلى جانب تفاعل جماهيري واسع عكس شغف الليبيين باستعادة معالم تاريخهم وحضارتهم.

ويعد متحف طرابلس الوطني واحد من أهم المعالم الثقافية في ليبيا لما يضمه من مقتنيات أثرية نادرة ترصد مسيرة الحضارات التي تعاقبت على الأرض الليبية منذ عصور ما قبل التاريخ مرور بالفترات الإغريقية والرومانية وصول إلى العصر الإسلامي والتاريخ الحديث في لوحة متكاملة تبرز تنوع ليبيا الحضاري وعمقه التاريخي.

0 Comments: